سورة ص - تفسير التفسير القرآني للقرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (ص)


        


{وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (47) وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ (48) هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ (51) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ (52) هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ (53) إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ (54)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ}.
أي واذكر- أيها النبىّ- وأنت تدعو نفسك إلى الصبر على ما تكره من قومك- اذكر فيمن تذكر من عبادنا الصالحين، إبراهيم وإسحاق ويعقوب.. فهؤلاء من ذوى الأيدى العاملة في كل مجال للخير والإحسان، ومن ذوى الأبصار الكاشفة عما في هذا الوجود من بعض جلال اللّه، وعظمته، وعلمه، وقدرته.. إنهم لم يؤنوا ملكا وإنما أوتوا نبوّة، وهم لهذا إنما يعملون بأيديهم، ويسعون في تحصيل معاشهم بأنفسهم، لا يملكون سلطانا يعمل لهم العاملون فيه.. ثم إن لهم إلى جانب هذه الأيدى العاملة في الدنيا، أبصارا عاملة في التدبّر في ملكوت اللّه، والتسبيح بحمده.
قوله تعالى: {إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ}.
هو بيان لقوله تعالى: {أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ}.
أي إننا أخلصناهم لعبادتنا، إذ أخلينا أيديهم من الملك والسلطان، فلم يشغلوا بتدبير ملكهم وحراسة سلطانهم، عن ذكرنا، وذكر لقائنا.
فقوله تعالى: {بخالصة} متعلق بقوله تعالى: {أَخْلَصْناهُمْ}.
أي نجيناهم من الفتنة بمنجاة، هى إقامتهم على تذكر الدار الآخرة.. وقوله تعالى: {ذِكْرَى الدَّارِ} بدل من (بخالصة).
قوله تعالى: {وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ}.
أي، فهم لما أخلصناهم به، في مقام عظيم عندنا، إنهم من المصطفين الأخيار من عبادنا.
هذا، ويلاحظ أن ذكر إبراهيم وإسحق ويعقوب، قد جاء متأخرا عن ذكر داود وسليمان وأيوب، مع أن إبراهيم، هو الأب الأكبر لهم، كما أن إسحق ويعقوب، من آبائهم الأولين.
فما سر هذا الترتيب الذي جاء عليه النظم القرآنى، مخالفا الترتيب الزمنى؟
والجواب على هذا- واللّه أعلم- هو:
أولا: أن داود وسليمان، وأيوب، كانوا أصحاب دنيا عريضة، إلى جانب النبوة.
فقد كان داود وسليمان ملكين، يقومان على ملك عظيم، على حين كان أيوب ذا ثراء كبير، ومال وبنين، إلى جانب نبوته أيضا.
وهذا الملك، وذلك الثراء، هما ابتلاء وفتنة حيثما وجدا، سواء أكان ذلك مع الأنبياء، أو غير الأنبياء.. وهذا يقتضى ممن يبتلى بهما أن يكون على حذر دائم، ومراقبة متصلة لنفسه، في كل ما يأتى وما يذر من عمل.. إنه في مواجهة الفتنة أبدا، فإذا لم يكن على حذر منها، جرفه تيارها، فكان من المغرقين.
ثانيا: لم يكن إبراهيم وإسحق ويعقوب، أصحاب مال أو سلطان- كما قلنا- ولهذا فقد خلصت نبوتهم من عوائق الفتن الدنيوية، فأخلصوا للّه وجودهم ووجوههم، فلم تكن منهم زلة أو هفوة.
وثالثا: في هذه الصورة التي تفرّق بين الأنبياء الملوك أو أشباه الملوك، وبين الأنبياء المخلصين للنبوة- يرى النبىّ صلوات اللّه وسلامه عليه- أين منزلته التي جعله اللّه فيها.. فهو صلوات اللّه وسلامه عليه- نبى خالص النبوة، لا تشغله الدنيا، ولا تعرض له بفتنة من فتنها.. ومن ثم فهو في عصمة من نبوته. فلا يذكر غير اللّه، ولا يلتفت إلى غير الرسالة التي في يديه، يحوطها، ويرعاها، ويحتمل الضر والأذى في سبيلها.
قوله تعالى: {وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ}.
وهؤلاء ثلاثة آخرون من أنبياء اللّه، هم على شاكلة إبراهيم وإسحق ويعقوب.. أنبياء لم يكن لهم مع النبوة ملك أو سلطان.. فهم {من الأخيار} كما أن إبراهيم وإسحق ويعقوب من (الأخيار).
وليس يعنى هذا أن داود وسليمان وأيوب، لا يدخلون في هذا الوصف الجليل.. وكلّا.. فهم أنبياء للّه قبل أن يكونوا ملوكا.. ولكن الخيرية درجات.
وأنبياء اللّه في مقامهم العظيم، هم درجات أيضا.. {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ} [253: البقرة].
واليسع: هو إلياس، وهو الياسين.
وذو الكفل: هو- واللّه أعلم- زكريا عليه السلام، لأنه هو الذي كفل مريم، كما يقول اللّه تعالى: {وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا} [37: آل عمران].
قوله تعالى: {هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ}.
الإشارة هنا إلى ما ذكر من حديث عن هؤلاء الأنبياء- صلوات اللّه وسلامه عليهم- وفى الحديث، ذكر وموعظة، لمن يتذكر ويتعظ، فيكون بهذا من المؤمنين المتقين.
قوله تعالى: {جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ}.
هو بدل من {حسن مآب}.
فالمآب الحسن، هو جنات عدن، أي جنات خلود، يجدها المتقون، وقد فتحت أبوابها لهم، يدخلونها من أي باب شاءوا، دون أن يحجبهم عنها حاجب.
قوله تعالى: {مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ}.
الاتكاء هنا كناية عن الراحة من السعى وراء المطالب المعيشية.. فهم لا يعملون عملا في سبيل ما يريدون.. بل إن كل شيء حاضر عتيد بين أيديهم، وما عليهم إلا أن يطلبوا فيجدوا ما طلبوا حاضرا.. إنهم يأكلون ما يشاءون، ويشربون ما يشتهون، مما كان قد فاتهم من حظوظ الدنيا.. هذا إلى ما أعدّ اللّه لهم، مما لم تره عين ولم تسمع به أذن، ولم يخطر على قلب بشر.
قوله تعالى: {وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ}.
قاصرات الطرف: أي غاضّات البصر، حياء، وخفرا، وعفّة.
الأتراب: جمع ترب، والترب الشبيه والمثيل.
أي وبين يدى أهل الجنة حور عين، قاصرات الطرف، أي خاشعات الأبصار، حياء وخفرا، على صورة كاملة في الجمال، والشباب.. كلهن على ميزان واحد في الجمال، ليس في أىّ منهن زيادة لمستريد.
قوله تعالى: {هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ}.
أي هذا النعيم الخالد، بألوانه، وأشكاله، هو ما وعد اللّه به المؤمنين، حيث يلقونه يوم الحساب، والجزاء.
قوله تعالى: {إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ}.
أي هذا النعيم الخالد، هو الرزق الذي يرزقه اللّه أصحاب الجنة، وهو رزق لا ينفد أبدا، ولا ينقص منه شيء أبدا، على كثرة الواردين عليه.


{هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ (56) هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ (58) هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (59) قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (60) قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (61) وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (62) أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (63) إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64)}.
التفسير:
قوله تعالى: {هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ، جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ}.
هذا هو الوجه المقابل لأصحاب الجنة، الذين ينعمون بهذا النعيم الخالد، ويهنئون بما أفاء اللّه سبحانه عليهم من رحمته ورضوانه.
فقوله تعالى: {هذا} إشارة إلى المؤمنين وأحوالهم في الجنة، أي هذا شأن.. وشأن آخر، هو شأن الطاغين، من رءوس أهل الكفر والشرك والضلال.. فهؤلاء لهم شرّ مآب، وسوء منقلب، هو هذا العذاب الذي يلقونه في جهنم، التي هى المهاد الذي يجدون فيه متكأهم وراحتهم.. إن لهم في دارهم هذه مهادا ومتكأ، كما للمتقين في دارهم مهادا ومتكأ! وشتان بين مهاد ومهاد! {هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ}.
هو في مقابل لقوله تعالى في المؤمنين: {يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ}، فأهل الجنة يطلبون ما يشتهون، فيجدونه حاضرا.
أما أهل النار، فإنهم لا يطلبون شيئا.. وماذا يطلبون من النار، إلا النار؟.
ومع هذا، فإنهم لا بد أن يطعموا من ثمر جهنم، ويسقوا من شرابها، كما طعم أهل الجنة من فاكهة الجنة، وشربوا من شرابها.
وإنه إذ لم يطلب أصحاب النار طعاما ولا شرابا. فهذا طعام وشراب حاضر بين أيديهم.. هذا حميم وغساق. فليدوقوه!.
والحميم: اللهب، ومنه الحمم وهو قطع الجمر.
والغساق: القيح والصديد.
وإذا كان لأهل الجنة حور عين: {قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ} فإن لأهل النار كذلك أزواجا من شكل هذا الحميم والغساق {وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ}.
أي وعندهم إلى جانب هذا الطعام والشراب، من الحميم والغساق، أزواج مشكّلة على شاكلة هذا الحميم والغساق..!!
وليس هذا فحسب..!
إن أهل الجنة يدخل عليهم الملائكة من كل باب، يؤنسونهم، ويحيونهم قائلين {سلام عليكم}.
وإن هؤلاء الطاغين، ليرد عليهم بين حين وحين، من يصبّ عليهم اللعنات، من أتباعهم وأشياعهم: {هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ}.
إنهم قد سبقوا إلى النار، وتقدموا أتباعهم، فهم أئمتهم في الدنيا والآخرة.
فإذا أخذوا أماكنهم من جهنم، دفع إليهم {فوج} أي فريق من أتباعهم، {مقتحم} أي يقتحم عليهم مكانهم الضيق الذي هم فيه، ليأخذ له مكانا.
فليقاهم الذين سبقوهم قائلين: {لا مَرْحَباً بِهِمْ، إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ}.
ويجيئهم ردّ التحية من أتباعهم: {بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ.. أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا} أي أنتم الذين دفعتم بنا إلى هذا المصير المشئوم.. {فَبِئْسَ الْقَرارُ} الذي استقر بنا وبكم.
ولا يقف الأتباع عند هذا مع سادتهم، بل يدعون اللّه عليهم أن يقتصّ لهم منهم، وأن يضاعف لهم العذاب، إذ كانوا هم الذين زينوا لهم الضلال الذي أوردهم هذا المورد.. {قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ}.
وفيما هم في هذا التلاحي والتخاصم، ينظرون في وجوه من حولهم من أهل النار، باحثين عن أناس كانوا يعرفونهم في الدنيا، ويرونهم أهل سوء، وأنهم أولى بالنار منهم.
{وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ}؟ فأين فلان وفلان، وفلان.. من الفقراء والضعفاء والعبيد والإماء؟ ألا ينزلون هذا المنزل؟ وإذا لم ينزله هؤلاء، فمن ينزله؟.
{أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا؟} أي أاتخذناهم سخريا، وكنا على خطأ في استهزائنا بهم، وسخريتنا منهم في الدنيا؟
{أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ}؟ أم أننا كنّا على صواب في سخريتنا واستهزائنا، وأنهم على ما كنا نقدّر، فهم موجودون هنا في جهنم، ولكن أبصارنا زاغت عنهم؟ لا ندرى!.
{إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ}.
أي إن هذا التخاصم والتلاحي بين أهل النار، هو حق واقع.
فمن كذّب، فلينتظر، وسيرى.


{قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70) إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (71) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (74) قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ (75) قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (78) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)}.
التفسير:
قوله تعالى: {قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ}.
بعد هذه المشاهد التي وقف فيها النبي صلوات اللّه وسلامه عليه، على أخبار بعض أنبياء اللّه ورسله، ممن ابتلاهم اللّه، ومن عافاهم، وبعد أن رأى المؤمنون ما أعد اللّه لهم في جناته من نعيم خالد، ورضوان مقيم، ورأى المشركون جهنم وما يلقاه أهل الضلال والطغيان فيها من بلاء عظيم- بعد هذا كله- والمشاعر متوفزة والقلوب واجفة- يلتقى النبي مرة أخرى مع المشركين، يذكرهم برسالته فيهم، وشأنه بهذه الرسالة معهم.. وأنه إنما هو منذر أي مبلّغ ما أمر به من ربه، وليس له عليهم من سلطان.
وقوله تعالى: {وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ} هو من مقول القول، الذي يقوله النبىّ للمشركين، وينذرهم به، وهو أن يؤمنوا بإله واحد، قهار، يذل الجبابرة، ويقصم ظهور الظالمين.
قوله تعالى: {رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ}.
هو من مقول القول أيضا، وهو عطف بيان على قوله تعالى: {الْواحِدُ الْقَهَّارُ}.
أي ما من إله إلا اللّه الواحد القهار خالق السموات والأرض وما بينهما العزيز الغفار.. فهذه بعض صفات الإله المتفرد بالألوهة، المستحق للعبادة.
قوله تعالى: {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ.}.
النبأ العظيم، هو ما حدثتهم به الآيتان السابقتان عن اللّه سبحانه وتعالى، وعما يليق له- سبحانه- من صفات الفردية والقهر والجلال، والعزة والمغفرة.. فهذا نبأ عظيم، يطلع على الناس بالهدى، ويقيمهم على طريق الفلاح، لو استقاموا عليه.. ولكن المشركين معرضون عنه، مستخفّون به، لا يعطونه آذانا مصغية، ولا يفتحون له قلوبا واعية.
قوله تعالى: {ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ}.
أي هذا النبأ العظيم الذي حدثتكم به، ليس من عندى، وإنما هو من عند اللّه.
ولكنكم لا تصدقون أنى رسول اللّه، وأنى أتلقى ما يوحى به إلىّ من آياته وكلماته.
أنتم لا تصدّقون هذا، وتستكثرون فضل اللّه علىّ، أو تستكثرون أن يتصل اللّه ببشر.
فإذا كان هذا ظنكم بربكم، وهذا رأيكم فىّ.. فما قولكم في هذه الأخبار السماوية، وتلك الأحداث التي وقعت في العالم العلوي غير المنظور أو المسموع- ما قولكم في هذه الأخبار التي تحدثكم بها آيات اللّه وكلماته؟ أهي من عندى أيضا؟ إنه {ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ}.
فأنا معكم على هذه الأرض.. وهل لمن كان من عالم الأرض أن يتصل بالعالم العلوي، ويعلم ما يدور هناك، إلا إذا كان موصولا بهذا العالم، مدعوّا إليه من ربه؟.
والذي يختصم فيه الملأ الأعلى، هو ما ستعرضه الآيات التالية، من موقف الملائكة، وإبليس من خلق آدم، ومن أمر اللّه سبحانه، بالسجود له.
قوله تعالى: {إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ}.
فهذا الذي أحدثكم به، أو تحدثكم به آيات اللّه عن الملأ الأعلى، هو وحي من عند اللّه، وما أنا إلا بشر مثلكم، وما {يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ}.
لا شيء أكثر من هذا.. إنى أبلّغ ما يوحى إلىّ به، لا أدخل عليه بشىء من عندى.
قوله تعالى: {إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ}.
هذا ما كان من اختصام في الملأ الأعلى، وهو مما لم يكن للنبى- صلوات اللّه وسلامه عليه- علم به، كما لم يكن لبشر أن يعلمه.. ولكن اللّه سبحانه وتعالى أخبره به وحيا من عنده، بهذه الآيات التي يتلوها على العالمين.
وفى التعبير عما كان بين اللّه سبحانه وتعالى، وبين إبليس- لعنه اللّه- في التعبير عنه بالاختصام- إشارة إلى تطاول هذا اللعين، وإلى موقفه من ربه موقف جدل واختصام، وذلك لشقوته التي غلبت عليه، بما سبق من قضاء اللّه فيه.
وأنه إذا كان في الملأ الأعلى من يكفر باللّه، ويعمى عن طريق الهدى وهو في عالم النور والصفاء والطهر، فإن في العالم الأرضى، عالم الظلام والكثافة، كثيرين وكثيرين، ممن يكفرون باللّه، ويركبون مراكب الضلال.. وأنه إذا كان الكفر باللّه، والخروج عن طاعته، لا يعصم أهل الملأ الأعلى من أن يردّوا إلى عالم الظلام، وأن يكونوا في الدّرك الأسفل من مخلوقات اللّه، فإن الكفر باللّه والخروج عن طاعته، لا يعصم من كان في العالم الأرضى، أن يردّ إلى ما دون هذا العالم، وأن يلقى به في عذاب السعير.
ثم إنه- من جهة أخرى- إذا كان في الملأ الأعلى ملائكة مقرّبون، لا يعصون اللّه ما أمرهم، فيزدادون بذلك قربا من اللّه- فإن في العالم الأرضى من يرتفع عن هذا العالم، بإيمانه باللّه، وولائه له، وينزل منازل الرحمة والرضوان، في جنات النعيم.
وهكذا.. رجيم من العالم العلوي يهوى إلى الأرض، وشهب من الأرض، تصعد إلى السماء، وتتألق بين كواكبها ونجومها..!
فأىّ من هذين الفريقين من أهل الأرض يكون هؤلاء المشركون؟
أيظلون على كفرهم باللّه، فيهوى بهم كفرهم إلى قرار الجحيم، أم يؤمنون باللّه، ويسعون إلى مرضاته، فيرتفعون عن هذا التراب، ويصعدون إلى الملأ الأعلى، ويصبحون من أهله؟.
وقوله تعالى: {قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} هو قسم من اللّه سبحانه وتعالى بأن تمتلىء جهنم من إبليس، وممن شايعه واتبع سبيله من الناس.. وفى هذا وعيد شديد من اللّه، بأن لجهنم أهلها من بنى آدم، وهم كثير تمتلىء بهم على سعتها.. فليطلب كل إنسان السلامة لنفسه منها، والنجاة من أن يكون من أهلها، فإن لها أهلا- نعوذ باللّه أن نكون منهم- وإنه لا نجاة إلا بالإيمان باللّه، والعمل الصالح.. فاللهم اجعلنا من المؤمنين بك، الساعين في مرضاتك، الفائزين برضاك ورضوانك.
قوله تعالى: {قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ}.
بهذه الآيات تختم السورة، ويلتقى ختامها ببدئها.. فقد بدأت بالقسم بالقرآن الكريم، ذى الذكر، تعظيما له، وإلفاتا إلى ما فيه من هدى ورحمة.. وختمت بالتذكير بالنبيّ، وبرسالته، وبالكتاب الذي بين يديه.
فالنبىّ- صلوات اللّه وسلامه عليه- ليس إلا رسولا من عند اللّه يبلغ ما أرسل به، وإنه لا يسأل الناس على ما يدعوهم إليه أجرا، ولا يتكلف لدعوته ما يخرج به عن حدود التبليغ، فلا يقهر أحدا، ولا يختله أو يخدعه، حتى يستجيب له: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ}.
أي ما هذا القرآن الذي بين يديه إلا ذكر للعالمين، والذكر مكانه العقول، وما يقع فيها من اقتناع بما تذكّر به.. {مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها}.
وقوله تعالى: {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ}.
تهديد للمشركين، ووعيد لهم، بما يلقون من عذاب شديد، يوم يكشف لهم الغطاء عما حجبه العناد والضلال عنهم.. ويومئذ يرون أنهم كانوا في عمى وضلال، وأن ما فاتهم لا يمكن تداركه أبدا.. {يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا} {يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر يا ليتنى كنت ترابا}.

1 | 2 | 3